[size=21]الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا
محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد :
فإن من أعظم نعم الله تعالى علينا أن وهب لنا القدرة على النطق والكلام، التي سهلت لنا طرق التعامل مع الآخرين .
فمنا
من استعمل هذه النعمة في الخير ، فلا ينطق إلا الكلام الطيب الحسن النافع
والمفيد، ومنا من أرسل كلماته دون ضابط أو رقيب أو قيود فأردته المهالك،
ومنا بين ذلك، قال تعالى مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )(ق : 18 ).
[center]*بـــدايـــة المنعــــطف*
إن
الحديث في هذا الموضوع يأخذ منعطفاً خطيراً، سار فيه جملة من الناس،
فأطلقوا ألسنتهم بكلمة ممقوتة مذمومة وقف الإسلام من هذه الكلمة موقفاً
حازماً، فحرمها وتوعد قائلها بالوعيد الشديد .
قال:"صلى الله عليه وسلم": (أن
الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها - أي ما يتثبت ولا يعلم هل هي خير أو
شر صدق أو كذب - يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ) (سنن البيهقي 16441)
حديثنا إذاً عن تكفير الآخرين بغير برهان من كتاب الله ولا سنة رسوله "صلى الله عليه وسلم"
وهو ما درج على لسان الصغير والكبير فراحوا يطلقون عبارة التكفير دون فقه
أو تثبت ، أو اعتبار للضوابط الشرعية مما آل إلى صنوفٍ من الانحراف
والضلال.
*تعــريف الكفــر وأنــواعــه*
الكفر في اللغة : التغطية والستر ، وشرعاً : ضد الإيمان .
والكفر نوعان / الأول : كفر أكبر يخرج من الملة ،وهو خمسة أقسام : كفر التكذيب ، وكفر الإباء والاستكبار مع التصديق، وكفر الظن ، وكفر الإعراض ، وكفر النفاق .
والثاني :كفر
أصغر لا يخرج من المـلــة ، وهو الكفر العملي، وهو الذنوب التي وردت
تسميتها في الكتاب والسنة كفراً ، وهي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر، مثل كفر النعمة .
*مراعــاة أمــور قبــل الحــكم*
لقد دلَّت النصوص على أن التكفير (كسائر الأحكام الشرعية) لا يتم إلا بوجود أسبابه وانتفاء موانعه، فليس كل فعل يوجب الكفر على صاحبة لوجود مانع يمنع من كفره .
فــإذا أتى المسلم مثــلاً بناقــض من نواقــض الإســــلام المتفــق عليها عند العلماء فإنه يُحكم عليه بالكفر، لكن يجب أن يراعي أموراً قبل الحكم عليه، وهي :
1 / أن لا يكون جاهلاً بالحكم .
2 / أن لا يكون مكرهاً .
3 / أن لا يكون متأولاً يظنه صحيحاً .
4 / أن لا يكون مقلداً لمن ظنه على الحق .
5 /أن يتولى الحكم عليه العلماء الراسخـــون وليــس عـــوام الناس .
مــن الـــذي يحــكم بــالتكفــير؟
يجيب عنها فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله
عضو هيئة كبار العلماء
سئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله هذا السؤال : من الذي يَحكم بالتكفير على الشخص ؟
فأجاب
: الذي يحكم أهل العلم والبصيرة الذين يعرفـــــــون الأحكام وينزلونها
منازلها، ما هو بالعوام والمتعالمون أو أهل الأهواء، إنما الذي يحكم بهذا
هم أهل العلم والبصيرة، يحكمون بكفر شخص بعد إيمانه .! لابد من أهل العلم
وأهل البصيرة .
المعين
لابـد من إقامـة الحـجـة عليــه عنــد القاضي، لأنـــــه قد يكون له عذر
يكون متأولاً . لازم . لا يُكَفَّر المعين إلا عند القاضي في المحكمة
الشرعية . أما العموم وأن يقال من فعل كذا فهو كافر، من دعا غير الله .! من
أشرك بالله .! من ذبح لغير الله .! فهو كافر على العموم .. نعم . يكفَّر
بالعموم . لكن المعين .! لا . ما يكفَّر إلا عند القاضي، لأنه ربما يكون له
عذر .! ربما يكون جاهلاً، ربما يكون مكرهاً، ربما يكون له عذر، فلابد من
هذا عند الحاكم . أ. هـ من شريط أسئلة وأجوبة من دروس الحموية للشيخ صالح
الفوزان حفظه الله .
وقد جاءت النصـوص بالتحذير من التكفيـر ، والوعيد الشديـد لمن كفَّـر أحـدًا مـن المســلمين ، وليــس هــو كذلك ، فعن أبي هريرة "رضي الله عنه" أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال : (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما)(البخاري 6103) .
وعــن أبي ذر ر أنه سمـــع رسول الله "صلى الله عليه وسلم "يقـــول: (ومن دعــا رجلا بالكفر، أو قال : عدو الله، وليس كذلك . إلا حار عليه)(مسلم 112 )،
فلا يجوز نفي الإيمان عن المسلم المعين، بل هو حرام، فكيف بمن وقع في هذه الدائرة الخطيرة يطلق لسانه عبثاً يكفِّر دون ضابط شرعي .!
*إطــلاق الكفــر عــلى المعــين*
يجيب عنها فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمـــــه الله هذا السؤال : هل يجوز إطلاق الكفر على الشخص المعين إذا ارتكب مكفراً ؟
فأجاب
: إذا تمت شروط التكفير في حقه جاز إطلاق الكفر عليه بعينه؛ ولو لم نقل
بذلك ما انطبق وصف الردة على أحد، فيعامل معاملة المرتد في الدنيا هذا
باعتبار أحكام الدنيا، أما أحكام الآخرة فتذكر على العموم لا على الخصوص؛
ولهذا قال أهل السنة : لا نشهد لأحد بجنة ولا بنار إلا لمن شهد له النبي "صلى الله عليه وسلم"
. وكذا نقول من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر، ولكن لا نحكم بهذا لشخص معين، إذ أن الحكم المعلق بالأوصاف لا ينطبق
على الأشخاص إلا بتحقيق انطباقه وانتفاء موانعه . أ. هـ من مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ج2 س219 ص125 .
فليس
كل من فعل مكفراً حكم بكفره، فالقول أو الفعل قد يكون كفراً، لكن لا يطلق
الكفر على القائل أو الفاعل إلا بشرطه، وما أكثر إطلاق اللسان من المتسرعين
والعوام بإطلاق الحكم قبل أن يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه .
وهذا
أصل عظيم يجب الاعتناء به وفهمــه، وتعليمه لمن وقـــع في التكفير حسب
أهوائهــم وفهمهـم القاصـر من العـوام أو الجهلة أو حتى من المنتسبين
للدعــوة، لأن التكفير ليس حقاً للمخلوق، بل يجب الرجوع في ذلك إلى الكتاب والسنــة على فهم السلف الصالح .
*فعل الخوارج من قديم*
قد
يُكفِّر البعض مَن يفعل المعاصي ويرتكب الكبيرة .! وهذا حاصل من قديم، وهو
فعل الخوارج ومن سار على نهجهم من المتعالمين في هذه الأزمنة المتأخرة،
فكبائر الذنوب تختلف في فحشها وعظم جرمها، فمنها ما هو شرك، ومنها ما ليس
بشرك، ومذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون مسلمًا لارتكابه المعاصي
والكبائر دون الشرك، مثل أن يقتل نفساً، أو يشـرب الخمـر، أو يأكـل الربـا،
أو يفعـل الزنـــا، أو يسـرق ونحو ذلك من الكبائر، وعلى ولي الأمــر أن
يطبِّق عليه العقوبة لفعله هذه المعاصـي والكبائــر من قصاص أو حــد أو
تعزير، وعلى فاعلها التوبة والاستغفــار .
وقـــد قــرر شيخ الإســلام ابن تيميـــة رحمــه الله في العقيــدة الواسطية:
فصل : ومن أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قول وعمل : قول القلب
واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص
بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفِّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما
يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي . أ.هـ[size=21]*تكفير الحاكم والخروج عليه*
إن
تكفير الحاكم أمر خطير وقع فيه البعض لما يرونه ويسمعونه عبر وسائل
الإعلام من تطاول على المسلمين وضعف قوتهم، وما يُبَثُّ فيها من سموم فكرية
وثورية، فترتفع أصوات هؤلاء بسب الحكام وتكفيرهم، والدعوة للخروج عليهم .
فعلينا أن نعلم أنه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا بشروط معروفة، نص عليها الشارع وبينها أهل العلم، وهي :
1 / أن يأتي الحاكم بكفر، متحقق الشروط منتفي الموانع .
2 / بواح غير خاف ولا مستتر .
3 / عندنا فيه من الله برهان وحجة، لا لبس فيها ولا خفاء .
4 / أن يكون الخروج مستطاعاً .
5 / لا ينتج فتنة ولا منكراً أعظم مما خرج لأجله أو مساوٍ له؛ لانتفاء المصلحة المرادة .
ولا
يحكم بتحقيق هذه الأمور في الحاكم إلا أهل الحل والعقد من العلماء
الربانيين الذين صحت بهم أو بمثلهم البيعة وانعقدت، ولا تصح ولا تصلح من
عامة الناس ولا غيرهم، وذلك حفظاً للدين وعصمة لدماء المسلمين واتفاق
كلمتهم.
*تكـفـــير الـعـلـمـاء*
إن
العلماء هــم حملــة الشـــرع المطــهَّـر، وهــــم ورثــــة الأنبياء،
فالقدح فيهم يفضي إلى القــدح بما يحملونه من تعاليم الشريعة ، قال"صلى الله عليه وسلم": (إن الله قال : من عـادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )(البخاري 6502 ).
فالأولـى
بالمسلــم احتــرام عـلـمــاء المسلمــين عن غيرهــم، والحذر من معاداتهم،
والقول عليهم، فــإذا نُزِعَت الثّقة من العلماء فبمن يوثق بعد ذلك ؟ وإلى
من يرجع المسلمون لحل مشاكلهم وبيان أمور دينهم ؟
قال ابن عساكــر رحمـــه الله : لحـــوم العلـماء مسمــومة، وأن هتك الله أستار منتقصيهــم معلومـة، فـمن ابتلاهم بالثلب، ابتـلاه الله بالعطـب . أ.هـ (من كتاب تبيين كذب المفتري ص27)
*منهج أهل السنة والجماعة في التكفير*
إن أهــل الســنة والـجـمـاعـة يعظَّمــون لـفـــظ التكفــيـر جــــداً، ويجعلونه حقاً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقط، فلا يجوز ولا يسوغ عندهم تكفير أحد، إلا من كفَّره الله تعالى أو كفَّره رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الطحاوي رحمه الله في العقيدة الطحاوية : ولا نكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول : لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله . أ. هـ
فالتكفير إذاً له ضوابط شرعية، وعلى المسلم أن يحذر من إطلاق لسانه في حق أخيه دون وجه حق .
*الوقــوع فــي الغيبــة*
يتكلم
البعض من الناس في حق أخيه بما يكره وهـــو غير حاضـــر ، فيتهـمه
بالتكفـيـــر في غيـبته، وهـذه هـي الغيــبـة الــتـي شاعت عند بعض
المتسرعين في الحكم على الناس، وتهاونوا بها مع أنها من كبائر الذنوب .
وقد شبه الله تعالى من يغتاب الرجل بمن يأكل لحمه ميتاً، قال تعالى
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا
أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)(الحجرات: 12 ).
بل سمعـنـا - وللأسف - من يقـــول : فــلان يُكَـفِّـر العلمـاء، أو فــــلان من المكفِّرين أو التكفيريين .والله تعالى يقول:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )(الحجرات :6) .
فما تلفــظ من قـــول ولا تعمــل من عمــل جهــراً أو ســـراً ، وســواء فعلت الفعل خفية أو علانية، فكل ذلك يكتب عليك ويحصـــى، قال تعالى
مَا يَلْفِظُ مِن قَـــوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(ق :18) ،
ثم تنبَّــأ بما عملت يوم القيامة، وتعطى كتابه فيقال لك (اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)(الإسراء: 14) .
*حصــــائد اللســـان*
إن حصائد اللسان من أقواله المحرمة هلاك له، وهي أنواع كثيرة، منها ما يوصـــل إلى الكفــر ومنها دون ذلـك، وفي الحديث عن النبي:"صلى الله عليه وسلم" (إن الله يبغض الفاحش البذيء)(ابن حبان 5693)
وقد
يظن أحد الذين أطلقوا لسانهم بالكذب في حق أخيه المسلم أمراً فيشيع عنه
أنه تكفيري من غير مبالاة، وهذا فيه إساءة وتشويه لسمعته، وقد لا يكون لهذه
الإشاعات حقيقة في الأصل فيبوء بإثم الكذب وإثم العدوان على أخيه المسلم،
قال"صلى الله عليه وسلم" : (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) (مسلم 65) .
فلو
أصبحـنـا نُكَـفّـــِر بعضنا بعــضاً دون ضوابـــط شرعــيــة لكانت
العـــداوة والبغضــاء بين المسلمـــين؛ مما يؤدى إلى استباحة الدماء
والأموال، والاعتداء على حياة الآمنين، وعلى مصالحهم العامة التي لا غنى
للناس في حياتهم عنها؛ فيتفكك المجتمع، وتتفرق الجماعـــة من أجل أمور
وهمية وظنون كاذبــة .
فعلينا أن نحفظ ألسنتنا، وأن لا نطلق لها العنان فتهلكنا وتردينا مسالك الشر والخسران، فقد قال "صلى الله عليه وسلم"
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت )(مسلم 74 )
فالمرء محاسب على كل كلمة تخرج من فمه .
وعند الله تجتمع الخصوم .
*أمور معينة على حفظ اللسان*
فيا من أردت النجاة من هذه الآفة الخطيرة، هذه عدة أمور تعينك بإذن الله تعالى على حفظ اللسان :
1 / التعوذ بالله من شر اللسان وتعويده ذكر الله تعالى .
2 / تذكر أجر حفظ اللسان، وكذلك خطر إطلاقه .
3 / الاشتغال بالطاعات وتجنب المنكرات والمحرمات .
4 / مجالسة أهل الصلاح ومن يحفظون ألسنتهم ويصونوها .
5 / طلب العلم الشرعي .
6 / قــطــع أسباب إطـــلاق اللسـان كالغضــب والحســد والكــبر وغيرها .
7 / الاشتغال بعيوب النفس عن عيوب الآخرين .
8 / تقديم النصيحة، قال"صلى الله عليه وسلم"
الدين النصيحة)(مسلم 205)
هذا وأســـأل الله تعالى أن يمنَّ علينا بالعفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأن يحمنا من الزلل في الأقوال والأفعال إنه سميع مجيب .
والله أعلم وأحكم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .