النازلة الثالثة: الإحرام بالإزار المخيط:
الإزار المخيط هو ما ظهر في هذا الوقت، وأفتى به مجموعة من أهل العلم وطلابه. وهو الإزار الذي يخاط جانباه، ويوضع في أعلاه تكة إما من خيط أو مطاط أو سير أو نحو ذلك و في اللغة يسمى النقبة، وهو يشبه تماماً ما تلبسه النساء في هذا الزمن ويسمى التنورة فهذا هو الإزار الذي نريد أن نتحدث عنه.
ما حكم لبس هذا الإزار بالنسبة للمحرم من الرجال؟
أولاً قبل الحديث عن حكم هذه النازلة، أو هذا الإزار نريد أن نتحدث عن بعض الأمور التي هي مقدمة وتوطئه حتى نصل إلى حكم لبس هذا الإزار.
فأولاً ماذا يلبس المحرم؟ فقد ورد في السنة عدد من الأحاديث، كلها تتحدث عما يلبسه المحرم في إحرامه. ففي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما -أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض الروايات أنه كان في المدينة، فسأله سائل فقال يا رسول الله ما يلبس المحرم؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يلبس القمص ولا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات ولا الخفاف".
في هذا الحديث سأل هذا الرجل عما يلبسه المحرم. فأجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بما لا يلبسه المحرم. قال ابن حجر: وهذا قمة في البلاغة والجزالة؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما علم أن الممنوع محدود، والمباح مطلق أعرض عما سأل عنه السائل، وبيّن المحصور المحدود فقال: "لا يلبس القمص ولا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات ولا ثوبا مسه ورس أو زعفران....الحديث". فهذا هو الحديث الأول في مسألة ما يلبسه المحرم.
الحديث الثاني هو ما في الصحيحين أيضا من حديث يعلى بن أمية -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في الجعرانة في مرجعه من الطائف، فجاءه إعرابي فقال:يا رسول الله ما تقول في رجل أحرم في جبة وتضمخ بطيب -يعني تلطخ بطيب -فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أما الطيب فاغسله ثلاثا، وأما الجبة فانزعها. فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينزع الجبة.
الحديث الثالث الذي ورد في مسألة ما يلبسه المحرم حال إحرامه هو ما رواه البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما -أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال وهو يخطب بعرفات: "ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويلات، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين". ففي هذا الحديث أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ورخص لمن لم يجد الإزار أن يلبس السراويلات.
وبالمناسبة السراويل هذا هو المفرد لا على ما هو شائع في لهجتنا أنهم يسمونه السروال. في اللغة العربية المفرد السراويل.
من خلال هذه الأحاديث الثلاثة قال أهل العلم إن المحرم ممنوع من لبس ما يفصل على قدر الأعضاء وعبر بعض الأئمة عما يفصل على قدر الأعضاء بالمخيط، فقالوا لا يلبس المحرم المخيط ومقصودهم بالمخيط ليس ما يخاط بالإبرة أو بالمكينة أو نحو ذلك لا، وإنما قصدهم بالمخيط مايخاط ويفصل على قدر أعضاء البدن؛ كالفنيلة والسراويل والثوب ونحوها. وهذه اللفظة لم ترد في السنة لا في حديث ابن عمر ولا حديث يعلى ولا حديث ابن عباس رضي الله عنهم. ولا في شيء من كتب الحديث كما أعلم.فالتعبير بأن المحرم لا يلبس المخيط إنما ورد عن بعض السلف، فانتشر وتداولته كتب الفقه وتناقله الفقهاء بعضهم عن بعض. ومن خلال هذا النقل التبس هذا الأمر على كثير من الناس، فظن أن المقصود بالمخيط هو ما يخاط في الإبرة أو المكينة أو نحو ذلك. وهذا ليس مقصودا للفقهاء على الإطلاق، فإنه بإجماع أهل العلم لو أن الإنسان عنده إزار، ثم شق هذا الإزار فخاطه، ثم لبسه أن ذلك جائز بإجماع أهل العلم. فليس المقصود بالمخيط هو الذي جرت به الإبرة أو المكينة أو نحو ذلك، وإنما المقصود بالمخيط هو ما يخاط ويفصل على قدر الأعضاء كما قلت لكم مثل الفنيلة والثوب والمشلح والبنطال والسراويل...الخ. هذا هو المقصود بالمخيط في لغة الفقهاء.
ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن المسألة التي نحن بصددها، وهي حكم لبس الإزار المخيط الذي وضع في أعلاه التكة أو الربطة وبعض الناس وضع له جيباً يوضع فيه المال أو الجوال أو نحو ذلك. باحكم لبس هذا الإزار؟ قبل أن ننتقل إلى الحكم أحب أن أبين أن اختلاف أهل العلم المعاصرين في حكم لبس هذا الإزار أو هذه النقبة له سببان:
السبب الأول: هو أنه اختلفوا في ما يلبسه المحرم على أسفل بدنه؛ يعني من الحقوين أو من الإزار أو من السرة. والذين اختلفوا في الإزار اختلفوا في ما يلبسه المحرم على أسفل بدنه هل هو محدود أو غير محدود؟ فمن أهل العلم من قال إن ما يلبسه المحرم على أسفل بدنه غير محدود؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما لما سئل ما يلبس المحرم، أعرض عن سؤال السائل، وانتقل إلى ما لا يلبس. قال كثير من أهل العلو كالحافظ ابن حجر وغيره قالوا إن هذه النكتة البلاغية هي أن ما يلبسه المحرم مطلق واسع لا حد له، إنما الممنوع هو المقيد فترك النبي -صلى الله عليه وسلم- المطلق الواسع غير محصور؛ لأنه لا مطمع في حده ولا حصره، وانتقل إلى ما يمنع منه، فذكره وهو السراويلات. فما لا يلبس على أسفل البدن هو السراويلات فهؤلاء قالوا إن الممنوع محدود وهو السراويلات، وما كان في حكمها، وأما المباح المسموح فإنه غير محدود
فيلبس المحرم إزارا أو غيره مما شاء المهم أن لا يكون من السراويل، ولا ما في حكمها هذا هو القول الأول.
القول الثاني. الذين قالوا إن هذا الإزار الذي قد خيط طرفاه ووضع فيه تُكة إنه لا يجوز. قالوا العكس من ذلك قالوا إن المباح في السنة لبسه على أسفل بدن المحرم محدود فقد حدده النبي -صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال وهو بعرفة: "ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويل" فقالوا هذا دليل على أن المباح فقط هو الإزار، وبالتالي فإنه لا يجوز أن يلبس على أسفل البدن إلا الإزار وما كان في حكمه. واضح هذا الخلاف. القول الأول: يقول المحرم والممنوع محدود والمباح واسع. والقول الثاني: يقول بل المباح هو المحدود والممنوع واسع. فالمباح فقط هو الإزار وما في حكمه.
والحقيقة أن الذي يظهر لي رجحانه والله سبحانه وتعالى أعلم هو القول الأول فإن الممنوع هو المحدود والمباح مطلق فالممنوع هو السراويلات وما كان في حكمها. والدليل على أن هذا القول هو الراجح هو أن حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما -الذي سئل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- عما يلبس المحرم فأجاب بأنه لا يلبس القمص ولا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات، أن هذا بالمدينة قبل أن يتلبس الناس في النسك قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم قبل أن يحرموا. أما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويلات". فهذا قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بعرفات. وأنتم تعرفون أن الحاج في عرفات إما أن يكون متمتعاً فيكون قد أحرم مرتين أحرم بالعمرة، ثم تحلل، ثم أحرم بالحج. وإما أن يكون مفردا أو قارنا، ويكون قد أحرم منذ أيام. وأهل العلم يقولون إنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. فلو قلنا بأن المباح هو الإزار فقط وما كان في حكمه فمعنى ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخر البيان حتى أحرم المتمتع مرتين، وأحرم المفرد والقارن منذ أيام. ولكن يحمل حديث ابن عباس _رضي الله تعالى عنهما -في عرفات على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يرخص للناس من شق عليه أن يجد ما يلبسه أو يتزر به أن يلبس السراويل؛ لأن من عجز عن لبس الإزار جاز له أن يلبس السراويل. فهذا هو الذي يظهر لي رجحانه بهذا التعليل. هذا هو السبب الأول من الخلاف في هذه المسألة وهو الخلاف في ما يلبسه المحرم على أسفل بدنه هل هو محدود أو مطلق؟